عبدالعزيز محمد داؤود - تاليف: البروفيسور علي المك
مساء السبت الرابع من أغسطس 1984م مات عبدالعزيز محمد داؤد، كان بدأ رحلته في طريق الأبد مساء الجمعة، وانطلق الموت يلهث إلى قلبه الكبير، فمصير القلب الكبير إلى لهاث، وارتاح الموت حين أسكته، لم اصدق كل ما حصل، وبعضه قد شهدت، ولم اصدق، في يوم الجمعة التي بدأت فيها رحلة الموت كنت مدعواً في بيت أحد الجيران، والدعوة غداء والنهار حار ومضجر، لا اعلم، تباطأت شيئاً، ولكني ذهبت علي كل حال، وجدت خلقاً كثيرين، كان منهم أحد المغنين، ودأبه كان تقليد أداء عبدالعزيز، ولكنه بون شاسع، قال يبدي تظرفاً امقت صنوفه (صاحبك صوته خف) قلت بحدة (صاحبي منو؟) قال (عبدالعزيز داؤد) قلت ساخراً (ما هو أنت موجود!) ضحك القوم ضحكاً كثيراً، تشاءمت، أكلت في عجلة، عدت للبيت، وحدي كنت، وفي التلفزيون وجدت ألواناً من مسابقات الأولمبياد في لوس انجيلاس، لم تفد حالتي كثيراً، اعرف الاكتئاب النفسي يقيناً، كنت لا اعلم من أمره، الاكتئاب، كبير شيء، ولكن الأزمنة الصعبة، والتمرس بمقابلة المكاذبين يبدون، أول أمرهم، براءة أطفال، هد من صلابة النفس ونقائها كثيراً. عرفت الاكتئاب إذن. يقيناً. والجمعة 3 أغسطس كان يومه.
وحين بدأت شمس النهار بالإخفاق أبصره حيث كنت في البرندة، سمعت حركة أقدام، ثمة من يصفق، نهضت من موقعي، فتحت الباب، أمامي كان عثمان محمد داؤد، أحييه في حماسة، ثوان وتخال دهوراً، لعله كان يود يختزل مجاملات التحية الطويلات ليقول لي شيئاً أهم كثيرا من مجاملات السلام. توقف السلام، قال (صاحبك جه من الأبيض عيان جداً) تركت التلفزيون يحفل بالعدو والملاكمة والسباحة وانطلقت معه نبحث عن طبيب، وعدنا صديق طبيب أن يتبعنا، ذهبنا إلى الخرطوم بحري، ما أنكرنا حي الدناقلة، كان بي حفياً منذ أن جعلته وطن الوجدان يكون في دار عبدالعزيز، ذلك كان في أخريات الخمسين، جسر مطمئن علي الخور يفضي إلى زقاق فيه دار عبدالعزيز، لا اعلم لماذا تفرست في معالم الجسر الصغير في ذاك الموعد من ذاك اليوم ولأول مرة! فوقه حصى، وعليه مع الحصى تراب، وكان يضايق السيارة انه علي حافي الجسر تكون دائماً مجموعة صبيان، أقدامهم تزيد ضيق الجسر ضيقاً تخال أحياناً، إن أقدامهم تدعو إطارات السيارات أن تدهسها، تارة ينهضون من مجالسهم برمين، وأحياناً بذوق حسن، في ذاك الموعد من ذاك اليوم لا صبيان ولا أقدام صبيان، ليس هناك من شيء علي الجسر إلا الحصي وإلا التراب، صرنا إلى البيت، ثوان وتخال دهوراً، بعد الباب المضياف، وجه عبدالعزيز، كان جالساً علي كرسي، اسند ظهره علي وسادات، تعبن علي قليل من راحة يحتاجها قلب متعب مجهد، مرهف، أنفاسه تجعل من جلابيته شراعا تعبث به الريح وتنفخ فيه، لا تسعفه الأنفاس المبهورات، لم يتعود هذا الإنسان الرائع أن يصمت، هش لي وبش، وضعت اكتئابي بين يديه، دأبي منذ أن عرفته، يعرف ما يضايقني قبل أن أبوح به، نظر إلي، ضحك ضحكاً صافياً هزم به الأنفاس المبهورات قال (أنت لسع محافظ علي جلابيتي الجبتها ليك؟) ضحكت بصفاء جعل الاكتئاب المر يتساقط من خيوط الجلابية، يغادر نفسي، جلست انظر إليه، تذكرت لحظتها زماناً في الستين وكنت اعد نفسي للسفر للدراسة في أمريكا. جاءني عبد العزيز وأهداني جلابية زرقاء اللون وفصلتها وحملتها معي، وحين عدت إلى الوطن سألني؟ ماذا أحضرت معك، إن شاء الله جلابيتي رجعت معاك؟) ضحكت، قلت (والله يا أستاذ كل الجبته معاي اسطوانات وفونوغراف) قال (بس! مرحب الغاب وجاب)!
بالمناسبه البروفسير علي المك رحمه الله كان له خفت دم مبالغ فيها. وعرفته عن قرب